Thanks to the help of lawyers collective Legal Agenda and public space advocates Public Works Studio, my investigation into the myriad of technical problems with the billon dollar Janneh Dam project and its looming destructive environmental impact is now available in Arabic. Portions of the article, which was originally published by US online outlet Take Part, were translated and republished in Al Safir newspaper in Lebanon last December. You can now read the full text on Legal Agenda’s website here. Full text follows:
سدٌّ في الجنّة
)) للمزيد من التفاصيل عن قضية سدّ جنّة ندعوكم إلى جلسة نقاشٍ وتبادل تجاربٍ حول مواضيع إدارة الموارد الطبيعية، شفافية مشاريع وعمليات التدخّل الجذريّ على الأرض والمساحات الطبيعيّة، وإمكانيات المشاركة في صنع القرارات المرتبطة بهذه التحولات. يشارك في النقاش الصحافيّ حبيب بطّاح (كاتب مقال “سدّ في الجنة” ضمن منشور “أشغال عامة” في المفكرة القانونية، عدد كانون الأول 2016)، لمشاركتنا المزيد من التفاصيل عن قضية سدّ جنّة. كما تحضر النقاش رسوماتٌ لمجموعة “أوربان سكتشرز لبنان” (المخربشون المدينيّون) محورها شطّ الرملة البيضاء المهدّد. وسيتم عرض فيلم “داموكراسي” الذي أخرجه تود ساوثجيت في العام 2013، علماً أن مدّته 35 دقيقة https://www.facebook.com/events/362152420793223/ ))
رغم التحذير من الهزّات الأرضيّة والتسرّبات وتدمير المحيط البيئيّ، تبني السلطات اللبنانيّة مشروعاً مائياً بارتفاع ثلاثمئة قدمٍ في واحدةٍ من أكثر المناطق تعدديّةً من الناحية البيولوجيّة في الشرق الأوسط.
جنّة – لبنان
في قعر وادٍ خصبٍ يقع بين قمم جبل لبنان الصخريّة، ربما يكون مزارع الفراولة جون أبي عكر آخر الصامدين في وجه مشروعٍ لبناء سدٍّ كلفته مئات ملايين الدولارات. لكن الرجل يتمتع ببعض الحيل التي تساعده على البقاء.
حين وصل موكب أحد الوزراء، بسياراته رباعيّة الدفع وزجاجها الداكن، إلى القرية في العام 2012 للإعلان عن المشروع الكبير، تلاعب أبو عكر اللافتات التي تدلّ الزوار إلى موقع المؤتمر الصحافيّ بحيث صارت تدلّ إلى طريق بيته. لم يمر كثير الوقت قبل أن تصله عشر سياراتٍ أميركيّة سوداء، قفز منها رجال الأمن ليواجهوا أبي عكر. لم يعرفوا إلى أين قادتهم اللافتات، فطلبوا منه إزاحة سيارته المركونة أمام المنزل. قالوا إنّهم يعملون لدى جبران باسيل، رئيس “التيّار الوطنيّ الحرّ” والشخص الأكثر ترويجاً للمشروع. سألهم أبو عكر مدعياً أنّه لا يعرف باسيل: “من هو؟ وماذا يفعل في الحياة؟”. جالساً في شرفة المنزل وبيده زجاجة جعّة، يروي إبن السابعة والثلاثين القصة بابتسامةٍ ساخرةٍ، فيما نهر ابراهيم يتدفّق خلفه. يضيف ضاحكاً: “سخرنا منهم بعض الشيء”.
بعد مرور أربع سنوات على تلك الحادثة، يبدو الواقع أشدّ مرارة. فقد بدأ العمل على بناء السدّ في العام الماضي، وإذا استكمل، من المفترض أن يكون الأكبر في العالم العربيّ. وقد أدّى إلى جرف مساحاتٍ واسعة من الوادي وقلع آلاف الأشجار (من غير المتوقع أن ينتهي العمل به في العام 2016 كما هو مخططٌ له). تمّ هدم معظم المزارع والمنازل في قرية أبي عكر التي تعرف باسم “جنّة”. وتقع القرية على الضفّة الشمالية لنهر إبراهيم، الذي يجري من تحت القمم التي يملأها الثلج وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، على بُعد 12 ميلاً من منزل أبي عكر. يمرّ النهر وسط النباتات الخضراء في وادي أدونيس المليء بالشلالات والينابيع الطبيعيّة، والذي يشكّل الوعاء الحياتيّ لأكثر من سبعمئة نوعٍ من الحيوانات والنباتات. فوادي أدونيس هو واحد من المناطق التي تشهد أعلى درجات التعدديّة البيولوجيّة في الشرق الأوسط.
يحذّر الخبراء من أنّ وقف مجرى النهر وبناء السدّ، الذي سيتطلب قطع أكثر من خمسمئة هكتار من الغابات، لن يتسبّبا فقط بخنق مجرى النهر وتدمير الموائل الطبيعية، وإنما أيضاً بتعريض شبكةٍ واسعةٍ من المياه الجوفيّة للخطر، خصوصاً تلك التي تغذّي بيروت بشكلٍ أساسيّ، أيّ نبع جعيتا. النبع الذي يقع على بعد عشرين ميلاً جنوب جنّة، يتفرّع في نهرٍ جوفيّ داخل مغارة جعيتا، وهي معلمٌ سياحيّ بارز ورمزٌ للفخر الوطنيّ تُطبَع صورها على البطاقات البريديّة وأوراق المال.
قد يؤدّي قطع مجرى النهر إلى تجفيف نبع جعيتا، حسبما أكّد “المعهد الفدراليّ لعلوم الأرض والموارد الطبيعية” ومقرّه هانوفر في ألمانيا، بعدما أجرى دراسةً للمشروع امتدت على سنوات. بالتالي، فإنّ تأمين المياه والكهرباء لمنطقةٍ في لبنان، قد يهدّد مخزون مياه العاصمة. وقد توصّل “المعهد” إلى أنّ بناء السدّ على تشكيلٍ صخريّ مساميّ يتسبّب باختفاء النسبة الأكبر من عشر مليارات غالون ماء يدّعي المروّجون للمشروع تخرينها، إذ ستشربها الأرض. وبوضوحٍ لا يحتمل اللبس، أكّد “المعهد” في العام 2012: “في ظلّ ما اكتشفناه، نوصي بشدّة بعدم بدء العمل بالمشروع”.
لكن، بالنسبة إلى وزارة الطاقة والمياه والوزير جبران باسيل ذي الطموح السياسيّ، فإنّ سدّ جنّة لن يكون أقل من عملٍ إعجازيّ للإنسان يسجّل انتصاره على الطبيعة، ويؤمّن المياه والكهرباء الضرورية للبلدات المجاورة. فيأتي شريطٌ ترويجيّ للمشروع نفّذه المتعهّد المحليّ متشبّهاً بأفلام “الأكشن”، بموسيقى تشويقيّة، وتفجيرات، وعناوين من فصيلة: “قبلوا التحدّي”، و”الفشل ليس خياراً”.
“إنّه تدميرٌ لنظامٍ بيئيّ كامل”
على الرغم من أن الدولة اللبنانية هي التي طلبت من “المعهد” إجراء الدراسة التي تطلّب انجازها ثلاث سنوات من الإختبارات على الأرض، رفض مستشارو وزارة الطاقة والمياه النتائج بوصفها “خاطئة كلياً” ومدفوعة بأسبابٍ سياسيّة. كذلك، رفضوا شكاوى وزير البيئة محمد المشنوق الذي قال إنّ المشروع فشل في تأمين دراسةٍ دقيقةٍ للأثر البيئيّ، كما أنه لا يحمل موافقة مكتبه اللازمة لبدء العمل.
لكن الحفر وقطع الأشجار مستمران. وتقدّر وزارة الطاقة والمياه تكلفة المشروع بحوالي ثلاثمئة مليون دولار أميركيّ، تتضمّن كلفة بناء معملٍ لإنتاج الطاقة الكهرمائيّة عند السدّ البالغ علوه ثلاثمئة قدم.
اما الناشطون وخبراء البيئة فيجزمون بأنّ الميزانية ستكبر لتصلّ إلى حوالي المليار دولار، بعد احتساب كلفة شراء الأراضي، والصيانة السنويّة، كما كلفة مشروع النفق الذي سيأتي بالماء إلى السدّ. وقد تناولت تقاريرٌ إعلاميّة صادرة في العام الماضي المتعهّد الأساسيّ للمشروع، أيّ شركة “اندراد غوتييريز” البرازيليّة، عارضةً أن الدولة البرازيلية ألقت القبض على مسؤولين فيها في ساو باولو في قضية فسادٍ تمحورت حول تضخيم أسعار عددٍ من المشاريع. فدفعت الشركة مبلغ 286 مليون دولار أميركيّ لتسوية القضية، في أيّار الماضي. ويقول معارضو السدّ إنّ سجل الشركة يتلاءم تماماً مع سجلات ما بعد الحرب في لبنان الخاصّة بفساد الدولة ومشاريع البنية التحتية الوهمية.
مزارع جون أبي عكر في وادي ادونيس منذ تقريباً عشرون سنة، صورة لحبيب بطّاح.
وهنا، يقول كريم عيد صباغ، وهو باحثٌ في “جامعة لندن” يعمل في الإقتصاد السياسيّ لإدارة المياه والموارد الطبيعية في لبنان: “أُنظر إلى كلّ المشاريع في لبنان، لم يُنجز أيّ منها وفق التكلفة المقدرة له. وكلها أُنجزت بنوعيةٍ سيئةٍ جداً”. كما يثق عيد صباغ بأنّ سد جنّة “لن ينتج نصف ما يدّعونه [مسؤولو الحكومة]. إنّها أموالٌ رميت من النافذة”.
إلى جانب التكلفة الماليّة، يؤكّد الخبراء أنّ السدّ سيخلّف أثراً كبيراً على البيئة. فيقول رولان رياشي، وهو خبيرٌ في إدارة المياه وباحثٌ ومحاضرٌ في “الجامعة الأميركية في بيروت”، إنّه “لن يكون لديك أيّ تنوعٍ بيولوجيّ. ستكون أمام وضعٍ كارثيّ: لا أشجار، المزيد من التصحّر، وإختفاء الموائل الطبيعيّة. حتى رمال البحر تأتي من الأنهر. إنّه تدميرٌ لنظامٍ بيئيّ كامل”.
يقلق أبو عكر من تأثير السدّ على حياة الوادي الطبيعيّة، والتي تشمل مجموعات من الذئاب والضباع والخنازير والأرانب البريّة والعصافير: “ماذا ستفعل الحيوانات حين يجف النهر؟”.
كما أن الحضارات المتعاقبة استخدمت أشجار هذا الوادي، من البابليين إلى الفرس، حتى منع الأمبراطور الرومانيّ هادريان قطع الأشجار في المنطقة في القرن الميلادي الأول، محوّلاً إياها إلى أول محميّةٍ طبيعيّةٍ في التاريخ. ولذلك، تنتشر الكتابات اللاتينية التي تعلن الحظر على صخور الوادي.
لن يفلح في تلبية هدفه الرئيسيّ حتى!
يقول ناشطون بيئيون إنّ العمال قطعوا آلاف الأشجار، وقد يتعدّى عدد الأشجار المقطوعة حدود الثلاثمئة ألف شجرة. يمكن لمس حجم الدمار في مشاهد التقطتها كاميرا مثبّتة على طائرة بلا طيار تابعة لـ”الحركة البيئيّة اللبنانيّة”، وهي تجمّعٌ لمنظمات بيئيّة: جبالٌ عاريةُ تتداعى في تناقضٍ صارخٍ مع الهضاب الخضراء التي تنتظر أشجارها دورها لتُقطع. بدأ مجرى النهر يتباطأ بسبب الركام المرمي فيه، وصار سطحه مغطّى بطبقةٍ سميكةٍ من الطحالب. وسيشمل التدمير حوالي 16 ألف هكتار من محمية جبل موسى الطبيعية، وهي مجالٌ حيويٌّ مصنّفٌ من “اليونيسكو”، يقع على بُعد بضعة أميالٍ من موقع السدّ محميّاً من قبل وزارة الزراعة. بعد ألفي عامٍ على إعلان هادريان، “يوجد وزراء يضحكون عليك في حال قلت إنّك ضد القطع [الأشجار]”، تقول جويل بركات، وهي مسؤولة عن الحفاظ على الطبيعة في “جمعية حماية جبل موسى”.
خلال أيام الصيف تكتظ الطرقات الضيقة داخل المحمية بالسيارات والحافلات التي تحمل العائلات الوافدة إلى المنطقة بغرض التخييم والتنزّه على ضفاف النهر. ومنذ تأسيسها في العام 2007، أنتجت المحمية الخرائط والمنشورات التي تصنّف مئات نباتات المنطقة وحيواناتها الأصلية وتؤرشفها، وتحفر الطرق التي تقود إلى الآثار القديمة كالكتابات الهدريانية (نسبة لهدريان) ومعابد أدونيس. تقول بركات إنّ عدد زوار المحمية يصل لعشرة آلاف شخص سنوياً، مع سعي لزيادة العدد عبر تطوير النزل التي تملكها عائلات المنطقة.
تضيف بركات: “نحن نؤمن بأنّ أهمية محمية جبل موسى تنبع من وادي أدونيس. المنطقة كلها مترابطة ثقافياً مع الوادي. سيكون للسدّ تأثير مباشر على النظام البيئي الخاص بضفتي النهر الموجود هنا، فهو سيختفي”.
في أشهر الصيف، ينخفض بشكلٍ كبير منسوب نهر ابراهيم (الذي يغذّيه ذوبان الثلوج)، ما ينتج بركاً بين الشلالات. وتقول بركات إنّ دراسات التدفّق التي نفّذتها الحكومة فشلت في أخذ التغيرات الموسميّة بعين الإعتبار، وكذلك التبخّر والتشرّب داخل الأرض. وهو ما كشفته الدراسة الألمانيّة التي توصّلت إلى أنّ أرقام التدفّق الحالية قديمةٌ وغير دقيقة.
تصرّ وزارة الطاقة والمياه على أنّ التأثير على الطبيعة سيكون محدوداً، وأنّ عدد الأشجار المقطوعة حتى الساعة بلغ خمسة آلاف فقط، وانه في ختام المشروع لن يتخطى الخمسين ألفاً. ولم تنجح محاولاتنا المتكررة في الإتصال بالوزارة للوقوف عند رأيها في الوقائع المناقضة لتصريحاتها.
وعلى الرغم من أنّ سدّ جنّة هو من أكبر المشاريع التي تنفّذها الدولة في تاريخ لبنان، إلا أنّهها لم تجرِ دراسةً للأثر البيئيّ قبل بدء العمل. وقد تمّ تقديم شكوى إلى الوزارة، بعدما اكتشفت مجموعةٌ من البيئيين وممارسي رياضة المشي وجود لافتاتٍ في الوادي تشير إلى بدء العمل بالمشروع.
بدأت الدولة بالعمل قبل إجراء الدراسة إذاً، ثم إنها رفضت نتائجها بعدما نفّذتها في حزيران 2015 شركة “جيكوم” الهندسية التي تعمل من بيروت. إذ وجدت الشركة أنّ المشروع “سيسبّب بشكلٍ لا يمكن تفاديه بتأثيراتٍ سلبيّة على النباتات والحيوانات المحلية” واحتسبت الكلفة البيئية والإجتماعية للسدّ بأكثر من مئة مليون دولار في السنة، مع ملاحظة تقول بأنّ “بعض الأضرار البيئية لا يمكن عكسها في الطبيعية، لذلك فإنّ خسائرها تتجاوز أيّ خيرٍ ينتج عنها”. كذلك، اعتبرت “جيكوم” أنّ هناك “خطر محتمل في حصول انهيارات في الأرض والتربة” قد “تؤثر على سلامة السدّ أو الخزان”.
إلى ذلك، يرى خبراء آخرون أنّ السدّ لن يفلح في تلبية هدفه الرئيسيّ حتى، أيّ حفظ الماء. فأساس وادي أدونيس مكوّن من الصخور المساميّة، وهي صخورٌ مسنّنة منتشرة في كلّ البلاد، وموجودة في الكهوف الكلسيّة ومصادر المياه الجوفيّة والينابيع في سلسلة جبال لبنان. وقد تتسبّب مسامية أرض السدّ بفقدان ثلثي المياه التي يهدف السدّ لتخزينها، أيّ حوالي عشر مليارات غالون، وفقاً للتقرير الألمانيّ. وفي رسالةٍ إلكترونية تعود للعام 2012 حصلت عليها “تايكبارت”، يتوجّه مدير البحث أرمين مارغان إلى مسؤولٍ لبنانيّ رفيعٍ في “مجلس الإنماء والإعمار” التابع للدولة اللبنانية بالقول: “إطلاق مشروع سدّ جنّة هو إستثمار فاشل، لأنه لن يخزّن أكثر من 2.6 مليار غالون من المياه بكلفة ثلاثمئة مليون دولار أميركيّ”.
“كان أجمل وادٍ في العالم”
على الهضاب المطلة على جنّة، وفي بلدة قرطبا المجاورة الوادعة تحديداً، أنشأت شركة “أندراد غوتييريز” عشرات المنازل المتنقّلة ليستخدمها مهندسوها. يقول المحتفون بالشركة أنّها وفّرت الوظائف وشغّلت العجلة التجاريّة الخاصة بالشركات المحليّة. في ساحة البلدة الرئيسيّة، ملأت نوافذ المقرّ الذي تستأجره الشركة ملصقاتٌ تروي عن مشاريعها، فيما يحتل ملصقٌ كبيرٌ لمشروع السدّ واجهة أحد المحال التجارية.
لكن، في جنّة، يسعى المزارع أبي عكر لجعل عمل الشركة صعباً. فهو يرمي الحجارة بشكلٍ دوريّ على شاحنات الشركة التي تمرّ في المنطقة، متحجّجاً بأنّها تعمل يوم الأحد حسبما يقول، في مخالفةٍ واضحة للقانون اللبناني، ناهيك عن تدميرها للوادي. أما شقيقته فتتعمّد ركن سيارتها الرباعيّة الدفع على الطريق الضيّقة المؤدية إلى موقع السدّ لعرقة سير الشاحنات. لكنّها معركةٌ لا تجد المناصرة التي تستأهلها.
مزارع الفراولة جون أبي عكر، صورة لحبيب بطّاح.
بيده، يشير أبو عكر إلى حيث كان يقيم جيرانه. بعد رحيلهم، لم يتبقَ أكثر من ثلاثة منازل حجرية ماثلة فوق إحدى التلال، بين شجر الزيتون والبلوط. فتبدو هذه المنازل كجزيرةٍ من الماضي تحيط بها من كلّ الجهات طرقٌ ملؤها الحصى، حُفرت حديثاً لتسهيل البناء. يقول أبو عكر إنّ مئة من سكّان الضيعة تقريباً – أيّ أكثر من نصف سكّانها – تركوا منازلهم التي تمّت تسويتها بالأرض، بينما تلقّت كلٌّ من ثماني عائلات تعويضاً قيمته ثمانين ألف دولار أميركيّ. فيسأل: “ماذا سيفعلون بهذا المبلغ؟ يشترون شقّةً صغيرةً، ومن ثم ماذا؟”. يقول إنّه سيبقى، رغم السدّ الكبير الذي سيتم بناؤه على بُعد مئات الأمتار من منزله وما تبقى من حقوله. سدّ، سيحجب الشمس عن البيوت البلاستيكيّة التي يزرع فيها خضاره: “لن يجبرنا أحدٌ على ترك المكان. لن أتركه، ولو مقابل مئة مليون دولار”.
يمشي أبو عكر باتجاه منزلٍ مبنيّ من صخورٍ كبيرة الحجم، وشرفةٍ مبنية من القصب وأغصان الأشجار. سكّان المنزل السابقين، أي جديه، مدفونين في قبرٍ وراء المنزل، قرب كنيسةٍ مكوّنةٍ من غرفةٍ واحدة فيها بضعة مقاعد. يقول أبو عكر إنّ جدّه الأكبر كان من أوائل الذين سكنوا في جنّة في عشرينيّات القرن التاسع عشر. داخل الكنيسة وتحت ثريا، علّقت لوحةٌ قديمةٌ ليوحنا المعمدان لابساً تاجاً ذهبياً، ويصبّ الماء على يسوع المسيح الذي يقف نصف عارياً في مياه نهرٍ آخر هو نهر الأردن. خارج الكنيسة، رُفع الجرس المصنوع من حديد الزهر بواسطة قطعةٍ من الخشب القديم، علّقت بين شجرتي زيتون. الكتابة على الجرس تقول إنّه يعود للعام 1885.
وراء البيوت البلاستيكيّة الخاصّة بأبو عكر، تظهر تلالٌ رحبةٌ وقد سويت بالأرض. تمّ قطع الأشجار كلها في هذه المنطقة بعدما امتلأت بها سابقاً، لتبدو وكأنها تعرّضت للحلاقة بواسطة آلة حلاقةٍ كهربائيةٍ عملاقة. في وسط الموقع، تكوّمت الأشجار والأغصان المقطوعة على ارتفاع عشرات الأقدام، كما لو انّ كارثةً طبيعيّةً سحبتها إلى هناك.
يقول أبو عكر، وهو يشير إلى جذع شجرةٍ كبيرةٍ مكسور: “انظر إلى ما فعلوه. لم يقوموا حتى بقطع الأشجار بشكلٍ سليم”. يبدو وكأنّ المشهد يقع على نقيض برنامج إعادة التشجير الذي تنفّذه شركة “خطيب وعلمي” المتعاقدة مع الحكومة، والقاضي بنقل الأشجار الموجودة في محيط المنطقة المخصصة لحوض السدّ وإعادة زرعها في مكانٍ آخر. صارت جنبات الجبل عبارةً عن رواسب، ويبدو واضحاً انهيار الصخور من أعلى قمّة في مكان الحفر، خصوصاً في القسم المكوّن على شكل حرف V اللاتيني، حيث سيتم بناء بنية السد. تمكن رؤية عددٍ من الواجهات المبنية من حجارة الكلس في عددٍ من نواحي المكان. ويؤكد أبو عكر إنّه شاهد عملية سحب المياه من نفق التصريف الخاص بالمشروع، ما يطرح المزيد من الشكّ حول ادعاءات السلطات بأنّ حالة الصخور “ممتازة”.
لا يزال لدى أبو عكر بضعة محاصيل داخل منطقة البناء، لكنه يقول إنّه لا يقوى على جمعها: “لن يتحمّل قلبي أن أدخل إلى هناك. سأبكي إذا فعلت ذلك. كان أجمل وادٍ في العالم”.
يغيّر الموضوع، وتتبدّل معالم وجهه. تعلوه ابتسامة سخرية، ويقول: “الأمر كله مرتبط بالمال، والكلّ يريد ملئ جيوبه. يعتقدون أنّهم قادة، لكنّهم لا يساوون نعل حذائي”.
يوجد نسخة أطول من هذا المقال في اللغة الانجليزية عبر الرابط التالي.
http://www.takepart.com/feature/2016/08/05/lebanon-jannah-dam